لفتت انتباهي منذ يومَين دراسةٌ قامت بها جامعةٌ بريطانية لقياس نموّ الناتج المحلي في المملكة المتحدة في السنوات ما بين ١٩٧٣ وحتى ٢٠١٠، وبطبيعة الحال هناك نموٌّ متصاعدٌ في الناتج المحلي، من الثورة الصناعية، ثم تلتها التطورات السياسية وما بعد التكنولوجيا، والكثير من الأحداث التي جعلت التنمية تدور متسارعة للأعلى على جميع الصُّعد. ولكن ما لفتني حقًا في تلك الدراسة أنّ مقياس الرضا المعيشي لدى الناس كان ثابتًا طوال فترة الدراسة، بمعنى أنّ السعادة لم تزد مع كل هذا النموّ الاقتصادي الذي حدث في بريطانيا وربما في غيرها من الدول.
أذهلني الرسم البياني الذي كنت أحدّق به طويلًا، وكثير من التساؤلات مرّت أمام عيني كالوميض الخاطف!، لماذا نحن نسعى للنماء إذًا، لماذا كل هذه المشاريع! ما الجدوى من اقتصادات الدول- غير فرض الضرائب بطبيعة الحال ـ ! لا شك أن جودة الحياة تحسنت كثيرًا في السنوات الأخيرة، وزاد متوسط عمر الفرد كذلك، فلله الحمد، الكثير يتمتع بصحة جيدة في عمر متقدم، ولكن هل نحن سعداء حقًا؟! أو هل الكل راضٍ عن معيشته!.
هذا السؤال يفتح تساؤلات أخرى كذلك، تساؤلات أكثر عمقًا، تعيدنا دائمًا لأصل الأشياء وجذور الأمور، والتي حتمًا ستجد إجابات في داخل كل منا، كلٌّ بطريقته، ولكن من وجهة نظر اقتصادية هذه المرة، فإن لهاث الرأسمالية العالمية نحو رفع الناتج المحلي وزيادة دخل الفرد، وهوس الحصول على المقتنيات التي لدى الغير، يخلقان نوعًا من انعدام المساواة في الثروة والقوة، ثمّ تشكل الطبقية، ناهيك عن مظاهر القلق، لأننا لم نحصل على ما نطمح إليه ولم تتحقق أحلامنا، بالإضافة إلى الخوف من المستقبل لأبنائنا وأحفادنا، والكثير من الأمور التي أبعدتنا عن فطرتنا الأولى كمجتمعات تبحث عن الألفة بين أقرانها والسلام والتوازن الداخلي.
هناك مملكة اسمها «بوتان» تقع بين جبال الهمالايا سعى الملك الرابع لها وهو من أوائل رواد التنمية المستدامة والداعمين لها، أن يجعل بوتان تهتم «بالسعادة المحلية الإجمالية» بدلًا من الناتج المحلي الإجمالي، وركز ليس على اقتصاد مملكته فحسب بل على الصحة النفسية والتعاطف والثقافة والمجتمع.
وما نخلص إليه من تجربة بوتان، هو أننا يجب ألا نغفل أهمّية التقدم الاقتصادي بكل تأكيد، ولكن على الأفراد السعي للسعادة والثقافة والصحة ونموّ المجتمع بدلًا من نوبات الهلع المُتعاقبة للحصول على المال أو ما يعادلها من المُقتنيات والملبوسات والأصول ومظاهر الترف التي لا تجعلنا سعداء، ولكننا بذلك نستشعر الفراغات بداخل أرواحنا المنهكة ونملؤها بفراغات أكبر!.
@bynoufalmarri
ask@noufalmarri.com