تلفت انتباهي الأوراق الخالية في آخر الكتاب، وأحيانًا في أوله، وربما بين الفصول، ولا أعرف إن كان ذلك بشكل مُتعمد أم بمحض الصدفة (أم بمحض الصدَقة التي تمنحها المطابع) بعض الأوراق الإضافية التي لا تضر إن كانت ستسند الغلاف وتحافظ عليه من التمزّق، لا أدري، لكن في كل الأحوال كل ما نشاهده وما نقرؤه وما نشعر به يستحق البحث والتأمّل.
حتى الأوراق الخالية قد تكون رسالة بشكل أو بآخر أو تودّ أن تهمس لك بشكل خاص وحصري عن شيء قد يخصّك أو تحتاج إليه، وأنا الرسالة التي تصلني من هذا اللاشيء الأبيض هي دائمًا عبارات مثل: «خذ نفسًا عميقًا» أو «تحتاج إجازة» أو «أسكِت عقلك قليلًا» كل الكلمات التي قد تشرح لك كم أنك تحتاج لنقاهة بين فصل من فصول حياتك وأخرى، كم تحتاج للهدوء والسكينة وأنت تتنقل بين المواقف والخيبات والنجاحات والمشاريع والأعمال وازدحامات عقلك، واستنزاف روحك وتعب جسمك!
كنت في سفر طويل في فترة ما لم أشعر بمتعته أبدًا بين دراسة وانشغال وغربة، اضطررت مرة لأن أحضر مع صديقة لي أحد مسارح الأوبرا بامتعاض وتذمّر، واستمعت مع حشد من الناس لسيمفونية لست من مُحبيها وأجد ذلك إزعاجًا مُبالغًا فيه، وضوضاء ليست تنقصني، لكنني رغم ذلك شعرت أنني انتقلت لحقبة زمنيّة ما.
كنت أركض في ممرات الذاكرة، أقفز مع كل نوتة، وأزعم أن كل الحضور كانوا يفعلون ما أفعله، فقدان جماعي للوعي، وغيبوبة جميلة ومؤقتة، حتى توقفت المقطوعة فجأة، وهدأ الكون كله لأجزاء من الثانية، شعرت بطنين السكون في أذني، وعدت للواقع بعدها بنظرة مُختلفة!.
تجربة لا أستطيع نسيانها، هذه الهدأة التي حصلت هي ما كنت أبحث عنه بين رؤوس الحشد، وكأنني أبحث عن قطعة من أحجية الأحداث المُتسارعة، الصمت المحض، الهدوء العميق، ما أسميته بالمرحلة الانتقالية. هذه الولادات المُتكررة، عندما تشعر أنك عدت حيًا من جديد بعد ما سلبتك الحياة جزءًا كبيرًا من روحك، هي كل ما ينقصنا عندما تقلّ طاقتنا ونفوذنا، هدأة الوجود بين مقطوعة وأخرى من معزوفة الحياة.
@bynoufalmarri
ask@noufalmarri.com