إذا أعطيت صبيًا في العاشرة من عمره هذه الأيام فقرة من أي كتاب، لن يستطيع استيعابها ولا فهمها، سيسألك أسئلة طفل في الثالثة من عمره، لن نقول باللغة العربية فقط بل حتى بالإنجليزية، بينما في جيل سابق كنا نقرأ القصص المصورة في الابتدائية، وروايات في السن المتوسطة مثل رواية البؤساء لفيكتور هيجو من خمسة مجلدات دفعة واحدة بكامل انتباهنا وفهمنا، حتى قدرتنا على التخيل كانت في أوج أناقتها وحلتها، ثم في المرحلة الثانوية نقرأ لتوستوي والكتب الفلسفية العميقة، حتى إذا وصلنا لشيء من النضج وجدنا أنفسنا نتصفح الكتب بأعيننا وكأننا نتصفح مجلة لأننا بمجرد النظر نعرف المحتوى ونفهمه.
ونضحك ونحزن ونتفاعل كما نتفاعل مع المسلسلات التلفزيونية، لأننا نرى ما نقرأ كالمشاهد الحية، نعيش معها التفاصيل، نغمض أعيننا مع رائحة الكتب، بعضها برائحة الخشب الرطب وبعضها أشبه بالفانيليا، عالم محسوس تنصهر فيه وينصهر فيك.
ولكننا اليوم، تاه أبناؤنا بين المؤثرات البصرية والسمعية والضوضاء والصخب حتى فقدوا المعنى وفقدوا الاستيعاب والترابط، كل شيء حولهم أصبح «سنابات» سريعة سطحية تمر كالوميض الذي لا يجعلهم يرون، بل يخطف أبصارهم وأذهانهم، تاه أبناؤنا بين تقنيات التعلم السريع التلقيني، وزحام الحشو الفارغ في المدارس، ثم يجيء للبيت يتنقل فيه بين الشاشات المتعددة من تلفزيون لآيباد للهواتف المحمولة، وضوء متواصل يشع في عينيه، لا يجد ما يلمسه ولا يشمه ولا يتفاعل معه، ثم تأتي فترة يشعر فيها هذا الطفل الذي كبر فجأة متوترًا قلقًا لا يجد السلام ولا الهدوء في داخله، عزوفنا عن القراءة جعلنا نعزف عن الإحساس بما حولنا والإدراك والفهم والتوازن الداخلي، أصبحنا في هذا العالم الافتراضي، كالأسير الذي يظن أنه استطاع الهروب، في كل مرة يعبر فيها الأسلاك الشائكة بعينيه.